سورة النور - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
فيه ست وعشرون مسألة: الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة.
وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، واهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه أذائه بالقول، كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد ***
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئا ومن أجل الطوى رماني
ويسمى قذفا، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء، أي رماها.
الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الامة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}. [النساء: 24].
وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج، كما قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها} [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء.
وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته، والله أعلم. وقرأ الجمهور: {الْمُحْصَناتُ} بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في {النساء} ذكر الإحصان ومراتبه. والحمد لله.
الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ، لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطي يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف، وهى العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمى بها، كان عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطنا هما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الاذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ، إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد، فإن عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لازالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفا كالتصريح، والمعول على الفهم، وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في هود.
وقال تعالى في أبى جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].
وقال حكاية عن مريم: {يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً} [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد.
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة، ومثله كثير.
السادسة الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم.
وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبى ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. وفية قول ثالث- وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك خلافا.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين: لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى.
وروى عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين، وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور بقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} [النساء: 25].
وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للادمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه عوام علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه، لتباين مرتبتهما، ولقوله عليه السلام: «من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» خرجه البخاري ومسلم.
وفي بعض طرقه: «من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون» ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لاحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير، حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد، وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر. قال مالك: ومن قذف أم الولد حد گ وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي.
وقال الحسن البصري: لا حد عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين، فقال ابن القاسم: عليه الحد، لأنه تعريض.
وقال أشهب: لا حد فيه، لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.
الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف، لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لان القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبى إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ، لان ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث على رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادقة رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد. وفية أيضا: إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد، ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله. وفية أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجئ فيطلب حده، لأنه لا يدرى لعله يصدقه، ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها. وفية أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه، ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك، وهذا لأنه من حقوق الناس. قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الأدميين، وسيأتي. قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله: {غيرى نغرة} فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلى من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلى جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد حدين، قاله مسروق. قال ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن، لان شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص. والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى، رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة النساء.
الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد، فإن افترقت لم تكن شهادة.
وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد، وبه قال ابن الحسن. وراي عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل، وهو قول عثمان البتي وأبى ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} وقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ} [النور: 13] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا، فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود، وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسخوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا.
وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة هشرة- فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأى.
وقال الشافعي: إن قال تعمدت ليقتل، فالاولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد.
وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية.
وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل به، وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الأدميين أو فيه شائبة منهما، الأول- قول أبى حنيفة. والثاني- قول مالك والشافعي. والثالث- قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الامام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الامام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} قراءة الجمهور على إضافة الاربعة إلى الشهداء. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بأربعة} بالتنوين {شهداء}. وفية أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا، وفي الحال والتمييز نظر، إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان ابن جنى هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون {شُهَداءَ} في موضع نصب، بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الاربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في النساء في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد، على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة، كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لام وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاءوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين. العشرون: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} الجلد الضرب. والمجالدة والمضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا *** كأن يدي بالسيف محراق لاعب
{ثَمانِينَ} نصب على المصدر. {جَلْدَةً} تمييز. {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً} هذا يقتضى مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرين- قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا} 160 في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف:
جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، إلا ما روى عن الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال.
وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته، فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر، فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل گ فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة- منها مالك رحمه الله تعالى وغيره-: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء، وقد قال الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ 20: 82} [طه: 82] الآية.
الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف، فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه.
وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته.
وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.
الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز، فقال مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شيء مطلقا، وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء، رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك، وهو قول مطرف وابن الماجشون.
وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه.
وقال مطرف وابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا، وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبى حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق، ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة. وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان: أحدهما- هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل، لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو. السبب الثاني- يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف. ويتأيد الاشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين، فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين. قال علماؤنا: وهذا نظر كلى أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهى عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الامة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى، والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، قال: وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته، لان {التائب من الذنب كمن لا ذنب له}. وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ-} [المائدة: 33] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا 160} [المائدة: 34]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع، وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله: {أَبَداً} أي ما دام قاذفا، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن معناه ما دام كافرا.
وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفه المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون: قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة، لان عند الخصم في المسألة النهى عن قبول الشهادة معطوف على الجلد، قال الله تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً}. وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حد، لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما. قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته. وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد، لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون- قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا 160
} يريد إظهار التوبة.
وقيل: وأصلحوا العمل. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث تابوا وقبل توبتهم.


{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
فيه ثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} {أَنْفُسُهُمْ} بالرفع على البدل. ويجوز النصب على الاستثناء: وعلى خبر {يَكُنْ}. {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ} بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر، أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو: {أربع} بالنصب، لان معنى {فشهادة} أن يشهد، والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات، ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. {وَالْخامِسَةَ} رفع بالابتداء.
والخبر {أَنَّ} وصلتها، ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لان معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص: {والخامسة} بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة. الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ}، أي والشهادة الخامسة قوله: لعنة الله عليه.
الثانية: في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشريك بن سحماء فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البينة أو حد في ظهرك» قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فقرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ 70} الحديث بكماله.
وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منى».
وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوى على ما ذكرناه، وعزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ضربه حد القذف، فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل: إنها موجبة، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فالتعنت، وفرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق- على النعت المكروه- ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية.
وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل، وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة.
قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد ابن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الاخبار.
وقيل: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الناس في الخطبة يوم الجمعة {والذين يرمون المحصنات} فقال عاصم بن عدى الأنصاري: جعلني الله فداك! لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا، فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته! فقال عليه السلام: «كذلك أنزلت يا عاصم بن عدى». فخرج عاصم سامعا مطيعا، فاستقبله هلال بن أمية يسترجع، فقال: ما وراءك؟ فقال: شر! وجدت شريك ابن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، وخولة هذه بنت عاصم بن عدى، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني، لكثرة ما روى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك ابن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بنى عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك إلى المدينة، قاله الطبري.
وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لا عن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما»، فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل. في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبى أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول...... فذكره.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} عام في كل رمى، سواء قال: زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس منى، فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث. وقد روى عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني، أو ينفى حملا أو ولدا منها. وقول أبى الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفى الحمل مع دعوى الاستبراء، هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح الأول لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ}. قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفى لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية، فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فاذهب فأت بها» ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى، قاله أبو عمر وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنى جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذنى، فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء به واشتد عليه، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية، وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ}.
الرابعة: إذا نفى الحمل فإنه يلتعن، لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطي والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء، فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما:
يجزى في ذلك حيضة.
وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول، لان براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الامة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا ينفى الولد بالاستبراء، لان الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.
الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده.
وقيل: لا ينتفي ولد الامة عنه إلا بيمين واحدة، بخلاف اللعان. وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك، وهو الصواب.
وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، وذلك لان اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين.
وفي قوله: «وجد مع امرأته رجلا». دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين، لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأة من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك واهل المدينة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وأبى ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق، فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما 10} [المائدة: 107] أي أيماننا.
وقال تعالى: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]. ثم قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16].
وقال عليه السلام: «لولا الايمان لكان لي ولها شأن». وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والامة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان». أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها.
وروى عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الاعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا، والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء. قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لاحد أن يدعى في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة: واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس، فقال مالك والشافعي: يلاعن، لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه. وقد تقدم هذا المعنى في سورة مريم والدليل عليه، والحمد لله.
السابعة: قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن، ونسى أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} وهذا رماها محصنة غير زوجة، وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية.
الثامنة: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن.
وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين، لأنها ليست بزوجة. وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى، لان النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية، فوجب عليه الحد وبطل ما قاله البتي لظهور فساده.
التاسعة: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهى أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهى ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.
العاشرة: إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن قبل الوضع، وقال: «إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان» فجاءت به على النعت المكروه.
الحادية عشرة: إذا قذف بالوطي في الدبر لزوجه لاعن.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد، لان الرمي به معرة وقد دخل تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} وقد تقدم في الأعراف والمؤمنون أنه يجب به الحد.
الثانية عشرة: قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنى: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الام، وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى، وهذا باطل جدا، فإنه خص عموم الآية في البنت وهى زوجة بحد الام من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
الثالثة عشرة: إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف، وزني المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها، لان الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة. ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في ابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد، فكذلك إذا طرأ في الثاني، كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين، وقد قال عليه السلام: «ظهر المؤمن حمى»، فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وبالله التوفيق.
الرابعة عشرة: من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، هو لدفع الحد، وهى لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لا عن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شي.
وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف من لم تبلغ. قال اللخمي: فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.
الخامسة عشرة: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني أنهم لا يحدون.
وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد، فظاهره يقتضى أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود، والله أعلم.
السادسة عشرة: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته.
وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبدا. وهذا خطأ، لان سكوته بعد العلم به رضى به، كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، والله أعلم.
السابعة عشرة: فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحا ينفش أو تسقطه فأستريح من القذف، فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك، فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي.
وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة.
وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما، مدة النفاس. قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفى ولده محرم عليه، واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه أولا. وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة، فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع، إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة.
الثامنة عشرة: قال ابن القصار إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانية- بالهاء- وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
لا يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي. ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت بفتح التاء كان قذفا، لان معناه يفهم منه، ولابي حنيفة وأبى يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى: {وَقالَ نِسْوَةٌ 30} صلح أن يكون قوله يا زان للمؤنث قذفا. ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله أعلم.
التاسعة عشرة: يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه. العشرون: اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان، فقال أبو حنيفة: لا حد عليه، لان الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج ويسجن أبدا حتى يلاعن لان الحدود لا تؤخر قياسا.
وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج حد، لان اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن.
وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا، لقوله: إن سكت سكت على غيظ وإن قتلت قتلت وإن نطقت، جلدت.
الحادية والعشرون: واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده، فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن، لان الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفى الولد فلا بد فيه من اللعان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه، لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}.
الثانية والعشرون: البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه ونفى النسب منه، لقوله عليه السلام: «البينة وإلا حد في ظهرك». ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: يجزى. وهذا باطل، لأنه خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا، لان المرأة إذا بدأت باللعان فتنفى ما لم يثبت وهذا لا وجه له.
الثالثة والعشرون: وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت قلت: لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الايمان أو عن شيء منها حد. وإذا نفى حملا قال: أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل منى، ويشير إليه، فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها: وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة: على لعنة الله إن كنت من الكاذبين، وإن شاء قال: إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان، تقول فيها: أشهد بالله إنه لكاذب، أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه على وذكر عنى. وإن كانت حاملا قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة: وعلى غضب الله إن كان صادقا، أو إن كان من الصادقين في قوله ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع: أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة: على لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميتها به من الزنى. وتقول هي: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة: على غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى.
وقال الشافعي: يقول الملاعن أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الامام ويذكره الله تعالى ويقول: إنى أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله، فإن رآه يريد أن يمضى على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا، فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة الله على إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.
الرابعة والعشرون: اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا، فقال مالك: عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمى. وبه قال أبو حنيفة، لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه.
وقال الشافعي: لا حد عليه، لان الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ}، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر، وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال ابن أمية، فلم يحد واحد منهما. قال ابن العربي: وظاهر القرآن لنا، لان الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه، وحد القذف لا يقيمه الامام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه.
الخامسة والعشرون: إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكون اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها بمثل ما تلتعن به المسلمة.
السادسة والعشرون- قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده، وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول الثوري، لقول ابن عمر: فرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه، ولقوله عليه السلام: «لا سبيل لك عليها».
وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن. قال: وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفى الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة، على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك، فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد ابن أبى صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا، قال: ولم ينكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه، لان باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام: «لا سبيل لك عليها». وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عليها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة.
السابعة والعشرون- ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف.
وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من الله.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبد العزيز بن أبى سلمة، وقالوا: يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد، لأنه لا فرق بين شيء من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام: «لا سبيل لك عليها»، ولم يقل إلا أن تكذب نفسك.
وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا».
وروى عن على وعبد الله قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن على: أبدا.
الثامنة والعشرون- اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ- وهو أربع شهادات على ما تقدم. والمكان- وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه. والوقت- وذلك بعد صلاة العصر. وجمع الناس- وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
التاسعة والعشرون- من قال: إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الأخر. ومن قال: لا يقع إلا بتفريق الامام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الأخر. وعلى قول الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا. الموفية ثلاثين- قال ابن القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ، وهو مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريقه حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق.
وفي مختصر ابن الجلاب: لا شيء لها، وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.


{إِنَّ الَّذِينَ جاؤُا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
فيه ثمان وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} {عُصْبَةٌ} خبر {إِنَّ}. ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}. وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الافك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم. قال: وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبى وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهى أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت إننى فيمن حدث الحديث! قالت: وما ذاك؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة: سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت نعم. قالت: وأبو بكر؟ قالت نعم! فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها: فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «ما شأن هذه؟» فقلت: يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض. قال: «فلعل في حديث تحدث به» قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت: والله، لئن حلفت لا تصدقونني! ولين قلت لا تعذروننى! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها. قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول: الإرسال في هذا الحديث أبين، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسروق لم يشاهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا خلاف. وللبخاري من حديت عبيد الله بن عبد الله بن أبى مليكة أن عائشة كانت تقرأ: {إذ تلقونه بألسنتكم} وتقول: الولق الكذب. قال ابن أبى مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري: وقال معمر بن راشد عن الزهري: كان حديث الافك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست.
وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وأخرج البخاري من حديت معمر عن الزهري قال قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف؟ قال: قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان على مسلما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه: قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبى طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبى.
الثانية: قوله تعالى: {بِالْإِفْكِ} الافك: الكذب. والعصبة: ثلاثة رجال، قاله ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة: أربعون رجلا. مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر. واصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته: ما زاد نفعه على ضره. والشر: ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير، لان ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
الثالثة: لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعائشة معه في غزوة بنى المصطلق وهى غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه، فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة.
وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، واخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة، فوقع أهل الافك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبى بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الافك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:
تلق ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاءوا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأهدر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر، على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضى الله عنه وعنهم.
وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء، ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة.
وقيل: كان له ابنان، يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنيه: «لهما أشبه به من الغراب بالغراب». وقوله في الحديث: والله ما كشف كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
الرابعة: قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الافك. إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله: وجهل الغير، قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة، كما قال الله تعالى.
وفي مصحف حفصة: {عصبة أربعة}.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب: {كبره} بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لان العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا، أي أكبره. روى عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمى: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق.
وروى عنها أنه عبد الله بن أبى، وهو الصحيح، وقاله ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله:
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا *** نبى الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب *** كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها *** وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أنى قلته *** فلا رفعت سوطي إلى أناملي
فكيف وودى ما حييت ونصرتي *** لال رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها *** تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روى أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه، والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الافك أم لا، وهل جلد الحد أم لا، فالله أعلم أي ذلك كان: وهى المسألة: السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلد في الافك رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبى ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الاخبار أنه ضرب ابن أبى وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الافك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الافك لان الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} أي على صدق قولهم: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً}. والقول الثاني- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد أهل الافك عبد الله بن أبى ومسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله *** وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية *** كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم *** وسخطة ذى العرش الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجلدوا *** مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها *** شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
. قلت: المشهور من الاخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبى. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
وفي كتاب الطحاوي: {ثمانين ثمانين}. قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبد الله بن أبى لان الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ}. وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحدود: «إنها كفارة لمن أقيمت عليه»، كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبى استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه، كما في صحيح مسلم. والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: {لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الافك ما قالوا. قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله المهدوي. و{لَوْ لا} بمعنى هلا.
وقيل: المعنى أنه كان ينبغى أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الامر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد.
وروى أن هذا النظر السديد وقع من أبى أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل! فقال نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك! قالت: لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس: معنى {بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الايمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
التاسعة: قوله تعالى: {لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} هذا توبيخ لأهل الافك. و{لَوْ لا} بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول، وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.
العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الامر كاذب لا في علم الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة. قلت: ومما يقوى هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحى قد انقطع وإنما نأخذكم ألان بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لَوْ لا} لأنه قد ذكر مثله بعد، قال الله عز وجل: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الأخذ في الحديث، وهو الذي وقع عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف، من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبى وابن مسعود: {إذ تتلقونه} من التلقي، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة: بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام، وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير: بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالادغام في قراءة من قرأ: {فلا تناجوا. ولا تنابزوا} لان دونه الالف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما- وهم أعلم الناس بهذا الامر- {إذ تلقونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه، فجاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.
وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال: جاءت الإبل تلق، أي تسرع. قال:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق *** جاءوا بأسراب من الشام ولق
إن الحصين زلق وزملق *** جاءت به عنس من الشام تلق
يقال: رجل زلق وزملق، مثال هدبد، وزمالق وزملق بتشديد الميم وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، قال الراجز:
إن الحصين زلق وزملق ***
والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات، فهو مشترك.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ} مبالغة وإلزام وتأكيد. الضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و{هَيِّناً} أي سيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ} في الوزر {عَظِيمٌ}. وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» أي بالنسبة إليكم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و{أَنْ} مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن، ونحوه.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد، كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} يعني في عائشة، لان مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما في ذلك من أذائه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عرضه واهلة، وذلك كفر من فاعله.
السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل، لان الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لان ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه». ولو كان سلب الايمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» حقيقة. قلنا: ليس كما زعمتم، فإن أهل الافك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهى سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الثامنة عشر- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ} أي تفشو، يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه، أي ظهر وتفرق. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح.
وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيئ. {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا} أي الحد.
وفي الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة.
وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شي. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} روى من حديث أبى الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها برئ يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار- ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية».
العشرون: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} يعني مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة، هو ما بين القدمين. والخطوة بالفتح المصدر، يقال: خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان، ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.
وقرأ الجمهور {خُطُواتِ} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور: {ما زَكى} بتخفيف الكاف، أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا.
وقيل: {ما زَكى} أي ما صلح، يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة، أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم.
وقال الكسائي: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} معترض، وقوله: {ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله أولا وثانيا: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبى بكر بن أبى قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف.
وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الافك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على يمينه، فنزلت الآية.
وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الافك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح، غير أن الآية تتناول الامة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.
وروى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}. قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إنى لاحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال، لان الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والايمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في المائدة. وراي الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته، ذكره الباجى في المنتقى.
الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ} {وَلا يَأْتَلِ} معناه يحلف، وزنها يفتعل، من الالية وهى اليمين، ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} وقد تقدم في البقرة. وقالت فرقة: معناه يقصر، من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} [آل عمران: 118].
الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «من لا يرحم لا يرحم».
السادسة والعشرون- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً} [الأحزاب: 47]. وقد قال تعالى في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]، فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]. وقوله تعالى:
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ} [الشورى: 19].
وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} [الضحى: 5]، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
السابعة والعشرون- قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتُوا} أي ألا يؤتوا، فحذف {لا}، كقول القائل:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ***
ذكره الزجاج. وعلى قول أبى عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا}. «وليعفو» من عفا الربع أي درس، فهو محو الذنب كما يعفو أثر الربع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8